عربي
ماذا يحدث في الاردن
يُمكن وصف المشهد الداخلي في الأردن على أنَّه الأكثر تأثراً بارتدادات حدث الـ 7 من أكتوبر، مقارنة بدول الإقليم الأخرى.
ويسعى الأردن – المرتبط باتفاقية سلام مع إسرائيل منذ عام 1994 – للحفاظ على موقف يوازن بين منطلقاته وارتباطاته المصيرية بالقضية الفلسطينية، واعتباراته الداخلية المُركّبة، وعلاقاته الخارجية الحسّاسة.
ولا شك أن يوم الـ 7 من أكتوبر شكّل “لحظة تاريخية فارقة”، لدى الشريحة الأوسع في الشارع الأردني، إذ انطلق المئات يومها نحو السفارة الإسرائيلية في عمّان، ثم شارك عشرات الآلاف في التظاهرات اللاحقة، ووزّع آخرون الحلويات، فيما غرقت وسائل التواصل الاجتماعي بالمنشورات الاحتفائية والمؤيدة لـ “طوفان الأقصى”.
لكنَّ عُمرَ الحرب الذي طال، بدأ يُعقّد مشهدية حراك الشارع من جهة، وزاد الضغط على الدبلوماسية الأردنية من جهة أخرى، رغم انحيازها المطلق للشعب الغزي المدني، وهجومها السياسي الشرس على إسرائيل، في كل لحظة ممكنة.
ما الذي يحدث في الأردن؟
يلاحظ المتابع للاحتجاجات الأردنية، أن للأسبوعين الأخيرين، خصوصيةً ضمن 6 أشهر من الاعتصامات المتواصلة، فقد شهدا “توتراً مفاجئاً”، وهيمنت فيهما الاشتباكات مع القوى الأمنية، واستجدت تطورات في الخطابين الاحتجاجي والرسمي، والمتفاعلين معهما.
فاللافت، أن التظاهرات العارمة على مدار الشهور الستة الماضية في الشارع الأردني، اتسمت بإطار يمكن وصفه بالهادئ نسبيا، رغم سقوف التظاهرات المرتفعة، ورفع الرايات الخضراء، والهتاف بالولاء لحماس وقياداتها.
وبالطبع، تابعنا تقارير عن صدامات وعدد من الاعتقالات بين فينة وأخرى، وذلك في سياق إعلان السلطات حظر التظاهر عند الحدود، ومنع محاولات الوصول أو اقتحام مقر السفارة الإسرائيلية، لكن كان من الممكن لمس رغبة في الإحجام عن “الصدام” بين الطرفين: مُنظمي الاحتجاجات والقوى الأمنية.
هل لـ طهران “عين” على الزحف المقدس؟
عملت قوى حزبية وشبابية وإسلامية (شملت الإخوان المسلمين والأحزاب القومية واليسارية) على قيادة الحراك الذي تشكّل مع الساعات الأولى في يوم الـ 7 من أكتوبر، وتتمثل الآن بعدة جهات أساسية، من أبرزها: “الملتقى الوطني لدعم المقاومة”، و”التجمع الشبابي لدعم المقاومة”.
وأكدت تلك الجهات أن حراكها يأتي استجابة لـ “نداء المقاومة وقياداتها.. ودعما للأردن وسيادته أمام مشاريع استهدافه”، وقوبل ذلك الحراك، بتأكيد رسمي على حمايته ودعم هدفه المتمثل بوقف الحرب.
وشهدت الأيام الأخيرة تحشيدا للحراك تحت عنوان “الزحف المقدس” تجاه السفارة الإسرائيلية، وقال “التجمع الشبابي لدعم المقاومة” في بيان إن أحد أهدافه الرئيسية من “حصار” السفارة الإسرائيلية إلى جانب المطالبة بإلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل، هو “استنهاض الساحات العربية في الضفة الغربية والداخل المحتل ومصر وبقية العواصم العربية لنكون أمة واحدة خلف غزة”.
يشير العديد من المراقبين، إلى أن النسيج الاجتماعي الأردني يضم شعباً هو الأقرب للقضية الفلسطينية، وهو ما يمكن فهمه ضمن 4 اتجاهات أساسية:
- تشكيل “الأردنيين من أصول فلسطينية” حوالي نصف عدد السكان في الأردن.
- “الالتحام” التاريخي والجغرافي والثقافي والاجتماعي والديني الذي يوحّد العشائر والدولة الأردنية من جهة، والفلسطينيين من جهة أخرى.
- وجود قاعدة تاريخية للتيار الإسلامي (الإخوان المسلمون) داخل المجتمع الأردني.
- اعتقاد الغالبية العظمى من فئات المجتمع الأردني بأحقية القضية الفلسطينية، ونظرتهم لإسرائيل باعتبارها “احتلالا” لا يمكن التصالح أو التعايش معه إلا بـ “المقاومة”.
يقول مدير معهد ستراتيجيكس للدراسات والأبحاث حازم الضمور إن شريحة “المواطن الأردني غير المؤدلج” تُمثّل ما يقارب الثلثين من حركة التظاهر، والذي يخرج إلى الشارع تعبيراً عن انتمائه العضوي للقضية الفلسطينية، في حين أن جماعات الإسلام السياسي تبحث عن تقوية موقفها وتضخيمه وزيادة حجم قاعدتها الانتخابية، فضلا عن تقديم الدعم لحركة حماس، التي وصلت بها الحرب إلى مرحلة استنزفت بها أغلب أوراقها، وفق الضمور.
ويستدرك مدير معهد ستراتيجيكس قائلاً بأن السلطات تمتلك المبررات لمنع التظاهرات وتحجيمها، (بسبب طبيعة بعض الهتافات المشككة بسيادة الدولة، والموالية لفصائل خارجية مسلحة، وتسجيل بعض الاشتباكات مع القوى الأمنية)، لكنَّ الدولة -بحسب الضمور- تعتبر الحراك الشعبي رديفا لموقفها السياسي.
واعتبر الباحث السياسي حازم الضمور أن “عين إيران” تراقب نسيج الشارع الأردني، وتسعى لإظهار الاحتجاجات على أنها ساحة جديدة تضاف إلى سوريا والعراق واليمن ولبنان ضمن استراتيجية “وحدة الساحات” الإيرانية، لكنَّ الضمور يرى أن طهران غير قادرة على ذلك نظرا لافتقارها لأي دور حقيقي في الشارع الأردني، فضلا عن خبرة المؤسسة الأمنية والعسكرية في التعامل مع “تكتيكات حروب الجيل الرابع والمنطقة الرمادية” مثل تهريب المخدرات والسلاح واختراق الأجواء الأردنية بالطائرات المُسيّرة، وإنشاء الحسابات الوهمية والبيانات التضليلية، وفق قوله.
حماس: اتهامنا بتأجيج الشارع الأردني “معارك دنكشوتية”
ردَّ القيادي في حركة حماس أسامة حمدان، على سؤال لبي بي سي بشأن اتهامها بالتنسيق مع إيران لتأجيج الشارع الأردني، قائلا إن “علاقات الحركة ممتدة بكل المنطقة ومحاولة الربط بين حدث (مثل زيارة إسماعيل هنية لإيران) وأي فعل تقوم به حماس هو محاولة مشبوهة ومرفوضة.. وحماس ليست معنية بإثارة أي اضطراب في أي بلد عربي أو إسلامي”.
واستخدم حمدان مفردة “السقم” في وصف “هذا النوع من التفكير” وقال إنّه يُعبّر عن معارك دنكشوتية (منفصلة عن الواقع)، معتبرا أن إسرائيل هي التهديد الوحيد في المنطقة.
وأشارت حماس إلى أن اتصالاتها الرسمية مع الأردن لم تنقطع، وأنها ترى انسجاماً في موقفي الأردن (رسميا وشعبيا) ومواءمة لتطلعاتها تجاه الحرب من حيث “رفض التهجير والتمسك بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس”، وأنها تأمل مزيدا من الأردن على ثلاثة مستويات: الدعم الإغاثي، والضغط السياسي لإنهاء الحرب، وفي مرحلة الإعمار بعد ذلك.
من جهته، قال الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية مهند مبيضيين في حديث مع بي بي سي، إن عمّان تدعم الكل الفلسطيني الذي تمثله السلطة الفلسطينية.
مضيفا أنَّ “(حماس) تنصح بالنفير العام.. هذه الدعوات تفهم في سياق اللادولة، والأردن ليس كذلك، فهو لديه دولته وجيشه ومؤسساته الدستورية ومرجعياته الدستورية التي تحركهم.. عليهم أن يتذكروا ذلك”.
ويؤكد الوزير أن “الأردنيين وقيادتهم الهاشمية وأرضهم ومجتمعهم وثقافتهم متضامنون مع الشعب الفلسطيني منذ تأسيس الدولة الأردنية.. وأن الأردن لطالما روى بدماء شهدائه أرض فلسطين.. وأن الأردن اليوم يعتبر سباقا في دعم الفلسطينيين إغاثيا جوا وبرا، ودبلوماسيا في جميع المحافل الدولية.. نظرا لأن ما يجمع الأردن وفلسطين مصير واحد وجغرافيا واحدة ورئة واحدة وخبز واحد”.
ارتطام مفاجئ
بالعودة إلى الأسبوعين الأخيرين، وما أثاراه من استغراب لدى مراقبي المشهد الأردني، إذ اعتبر العديد منهم أن هناك نقطة تحولٍ أدت إلى “تعسّر” حالة التفاعل الرسمي والاحتجاجي.
فقد بدأنا نلحظ أن عددا من النشطاء يدفعون بكثافة تجاه نشر خطابات ومقاطع مصورة تتهم قوى الأمن الأردنية بـ” استخدام أسلوب خشن، واعتقال المتضامنين مع قطاع غزة”، في حين تصاعدت حدة الخطاب الرسمي وشبه الرسمي تجاه ما وُصفت بـ “محاولات اختطاف الشارع”.
ويقول “التجمّع الشبابي الأردني لدعم المقاومة” إن هناك “قبضة أمنية” تؤثر على توجه الدولة نحو تفعيل الأحزاب في الأردن، وبينما اعتبر التجمّع أن “هذه القبضة وبقاء 35 معتقلا في السجون.. لن تُثني الشباب الأردني عن دعم غزة”، استهجنت عمّان تلك الاتهامات، مؤكدة دعمها حق التظاهر، ومستشهدة بتضامنها الإغاثي والسياسي الكامل مع غزة، وهجومها الدبلوماسي العنيف على إسرائيل.
وشدد الوزير مبيضين في حديثه مع بي بي سي، على أنَّ “المظاهرات مكفولة وفق الدستور.. لكنَّها كما في أي دولة لا بدّ أن تُقيَّد وفق شروط عدم الخروج عن القانون والمساس بسيادة الدولة واستفزاز الأجهزة الأمنية والإساءة لهم وخلق نطاقات للاحتكاك”.
واستنكرت الحكومة “شعارات الولاء والبراء لبعض القيادات”، ووصفت السفارة الإسرائيلية بأنها “مقرٌ لبعثة دبلوماسية مطرودة من الأردن.. وأن الدعوات لحصارها، تُسقِط سيادة السلطة القائمة وكأنه لا وجود للمؤسسات أو الأجهزة الأمنية”.
واعتبر الوزير أن التصعيد قد يُراد من قبل أطراف تجد نفسها اليوم خاسرة، متوقعاً أن تزداد الضغوط على الأردن إذا ما دخلت إسرائيل “حرب رفح”.
من جهته، اعتبر الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي في الأردن مراد العضايلة، خلال حديثه مع بي بي سي، أن ما أعاد الزخم للتظاهرات في الأردن، كان حدث إعادة اقتحام الجيش الإسرائيلي لمستشفى الشفاء والتقارير -التي نُفيت لاحقا- بشأن وقوع حادثة اغتصاب أثناء تلك العملية.
وقال العضايلة إن عودة الزخم للشارع الأردني أثار قلق أطراف خارجية، ودفع تلك الأطراف لشن حملة ممنهجة ضد الحراك عبر إنشاء الحسابات الوهمية، وربط التظاهرات بإيران واستحضار أحداث دموية مثل “أيلول الأسود”، وذلك بهدف تصفية الحسابات مع تيار الإسلام السياسي، وفق حديثه.
التصعيد: لماذا تحوّل الخطابان الرسمي والاحتجاجي؟
كان واضحا أن التغيّر في لهجة الخطابين الرسمي والاحتجاجي تجاه بعضهما، قد لقي صدى ساخنا في شبكات وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يقتصر ذلك على النخب والنشطاء الأردنيين، بل أصبح أيضا موضوعا للسجال والتحليل في الأوساط العربية الأوسع.
وفي قراءة لأهم أسباب هذا “التشنج المُستجد”، يقول رئيس معهد دراسات لغات الأمن، عامر سبايلة، إن حدّة التوتر الأخيرة تقترن بـ “اقتراب معركة رفح التي ستلغي أي إنجاز سياسي لحماس واحتمالية فتح الجبهة في لبنان.. مما يدفع جهات (مثل حماس وإيران) إلى تأزيم المناطق التي تعتبر حليفة للولايات المتحدة والمحور الغربي”.
وانتقد سبايلة ما سمّاه المتظاهرون اجتياح السفارة أو حصارها، مشيراً إلى أن الحالة بذلك تخرج من سلميتها إلى اللاسلمية، مؤكداً أن “التظاهر حق ومسموح به، وهذا ما كان خلال ستة أشهر مضت.. لكن لا يمكن قبول تحويل عمّان إلى ساحة حرب، أو أن تكون فيها ميليشيات عاملة”.
وقال رئيس معهد دراسات لغات الأمن إن هناك تيارات في الأردن تعتقد بأنها قادرة على استغلال ما يجري في رفع شعبيتها خاصة مع قرب إجراء الانتخابات البرلمانية.
واتهم عامر سبايلة واشنطن بالتسبب بمشكلة أساسية في الدور الذي لعبته بإدارة الملف منذ اليوم الأول، ابتداءً بالضوء الأخضر المفتوح لإسرائيل في بداية الحرب ثم الموقف السلبي المتمثل بعدم قدرتها على فرض أي تغيير على الأرض.
من جهتها، استغربت حركة حماس في تصريح لبي بي سي، وجاهة الربط بين أوضاعها العسكرية أو السياسية في قطاع غزة، وأي أحداث تقع في الشارع الأردني.. في حين أنَّ الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي مراد العضايلة، نفى اتهام حزبه بامتلاك أجندة وراء المشاركة في الحراك أو محاولة تحقيق مصالح انتخابية أو مكتسبات سياسية.
واعتبر العضايلة خلال حديثه مع بي بي سي، أن وجود بعض التباينات مع المستوى الرسمي لا ينفي حالة الإجماع الأردني (رسميا وشعبيا) تجاه دعم غزة، مضيفا أنه يتفهم الإكراهات التي تحيط بالدولة وتؤثر على خطواتها، وفق قوله.
كما نفى الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي وجود “أزمة” في الأردن، معتبرا أن المملكة بلد “الأسرة الواحدة” التي تستطيع إيجاد المخارج دائما، والحفاظ على استقرار الجبهة الداخلية ومنعتها.
الشارع الأردني: غليانٌ أم مُغالاة؟
يقول الكاتب أحمد أبو خليل إن الصراع الاجتماعي داخل الأوطان، ومن منطلق الحرص عليها، أمر مشروع ودليل حيوية، وليس إشارة فوضى أو خراب.
ويضيف الكاتب في تدوينات نشرها عبر موقع فيس بوك، أن متابعته أحداث الاعتصامات عن بُعد أشعرته بالقلق، فيما ازداد ارتباكه بعد قراءته تقريرين في إحدى الصحف العربية عن الوضع في الأردن، ليكتشف -بعد زيارته الميدان- أن التقريرين منفصلان عن الواقع.
ويشير أبو خليل إلى أن ما شهده على الأرض، جعله يستنتج أن “ميدان الاعتصام” أقل حدة من “ميدان النقاش عن الاعتصام”، قائلا: “لقد تحكم مصورو اللقطات التي انتشرت بالنقاش. بالطبع لا أشكك بالصور، التي تبنتها أطراف النقاش. لكنها عبارة عن دقائق ولقطات من مواقع معينة، أعطت إيحاء ان المشهد يحتوي على صدام عنيف”.
ويرى الكاتب الأردني أن “مجتمع الاعتصام” يخلق شروطه الخاصة، معتبراً أنه لا يمكن مواصلة طلب التقيد بالعقلانية التي يراها من هو خارج الاعتصام أو المظاهرة، ولكنه يستدرك متفائلا بتطوير الأجهزة الأمنية مهارات التعامل مع الاعتصامات وحالاتها، معتبرا أنَّ ما يدعو للاطمئنان هو عدم وجود حالة عداء بين أجهزة الدولة أو الأجهزة الأمنية من جهة، والجمهور من جهة أخرى.
ويتفق حديث أبو خليل، مع تقييم كلٍ من الحكومة الأردنية وجبهة العمل الإسلامي، إذ اعتبرت هذه الأطراف خلال حديثها مع بي بي سي أن الوضع في المظاهرات أكثر هدوءا مما يتم تصويره في وسائل التواصل الاجتماعي.
إذاً، وعلى الرغم من اتفاق الشارع الأردني والمستوى الرسمي على دعم غزة والانحياز إلى الجانب الفلسطيني في الصراع مع إسرائيل، منذ عدة عقود، إلا أن هذه الحرب الطويلة وغير المسبوقة وضعت الحراك والدولة معاً، في مرمى المزيد من الاختبارات، ومع ذلك فلا يبدو أنها اختبارات خارج النص، بل يمكن وصفها بالطبيعية والمتوقعة، فقد شهدت المملكة على مدار مئة عام سابقة، تجارب شائكة وأعقد بمرّات.