اخبار تركيا بالعربي
لماذا تستمر اليونان في استفزاز تركيا؟
رغم أن أنقرة، إثباتاً لحسن النيات وتخفيفاً للتوتر، حدت كثيراً من أنشطة التنقيب في المناطق المتنازَع عليها بين البلدين في الفترة الأخيرة، فإن الاستفزازات اليونانية في المقابل ازدادت بشكل ملحوظ.
لا تكاد حالة التوتر بين تركيا واليونان تهدأ حتى تعود الأخيرة لإشعالها بإصرار واضح وأهداف غير مفهومة.
تُعَدّ الخلافات بين البلدين من أقدم نماذج الصراع وأكثرها تقليدية وتعقيداً، إذ يجتمع ويتداخل فيها التاريخي مع القومي والديني مع الجيوسياسي والثقافي مع الاقتصادي. وإذا كان البلدان قد خاضا حروباً قبل قرن ويزيد، ثم تأسس بينهما نزاع وخلافات عديدة أهمها القضية القبرصية وجزر بحر إيجة وترسيم الحدود البحرية، فإن السنوات القليلة الأخيرة قد رفعت مستوى التوتر إلى ذروته بعد الثروات -تحديداً الغاز الطبيعي- التي اكتُشفت في شرق المتوسط في العقد الأخير.
ورغم كل ما سبق فإن البلدين استطاعا في السنتين الماضيتين تحديداً تخفيف حدة التوتر بينهما وتأسيس قناة حوار لمنع الصدام، لا سيما العسكري، بينهما، وقد قطعا في ذلك شوطاً مقبولاً.
أكثر من ذلك، فقد دفعت الحرب الروسية-الأوكرانية الغرب إلى إعادة النظر في أهمية تركيا والأدوار التي يمكنها لعبها ويصعب على أي دولة أخرى الاضطلاع بها، خصوصاً بعد تواصلها الإيجابي مع كل من روسيا وأوكرانيا، ونجاحها في إجلاس وزيرَيْ خارجية البلدين إلى طاولة الحوار، ثم نجاح وساطتها في أزمة الحبوب الأوكرانية، إلخ.
بل إن التهديدات الأمنية المستجدة على القارة الأوروبية، وبشكل أكثر تحديداً الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، هي ما قاد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إلى أنقرة للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أشهر، وبدا أن البلدين يخطان طريقاً جديدة أكثر هدوءاً عنوانها الحوار والتنسيق والتعاون.
بيد أن ميتسوتاكيس لم يلبث أن نكص عن هذا الطريق في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي في مايو/أيار الفائت، محرّضاً أعضاءه على أنقرة، خصوصاً ما يتعلق بملفّ بيع السلاح وقضية شرق المتوسط، ما دفع الرئيس التركي إلى تأكيد أنه لن يشارك في حوار مستقبلي معه بعد تراجعه عن الاتفاق الذي أبرمه البلدان، قائلاً: “لم يعد موجوداً شخص اسمه ميتسوتاكيس بالنسبة إليّ”.
ورغم أن أنقرة، إثباتاً لحسن النيات وتخفيفاً للتوتر، حدت كثيراً من أنشطة التنقيب في المناطق المتنازَع عليها بين البلدين في الفترة الأخيرة، فإن الاستفزازات اليونانية في المقابل ازدادت بشكل ملحوظ. فحسب المصادر التركية، انتهكت اليونان منذ بداية العام الحالي الأجواء التركية بمقاتلاتها 256 مرة، ومياه تركيا الإقليمية بمراكب خفر السواحل لديها 33 مرة، وتحرشت بالمقاتلات التركية 158 مرة.
آخر هذه الاستفزازات كان تعقُّب اليونان مقاتلات تركية يوم 23 من أغسطس/آب الفائت والتشويش على رادارها (كإشارة على الاستهداف) خلال تنفيذها إحدى مهامّ حلف الناتو فوق البحر المتوسط.
فوفق وزارة الدفاع التركية تعقبت منظومة S-300 الدفاعية (روسية الصنع) الموجودة في جزيرة كريت مقاتلات F-16 التركية، وعدَّت ذلك “عملاً عدائيّاً” يتناقض مع قواعد الاشتباك في حلف الناتو.
أنكرت اليونان الحادثة متذرعة بأن منظومة S-300 “لم تكُن مفعلة” وأن الأمر “قامت به المقاتلات اليونانية وفق قواعد الاشتباك” المتعارف عليها. لكن تركيا، في خطوة تَحدٍّ للسردية اليونانية، قالت إنها تملك تسجيلات الرادار وإنها سترسلها إلى الأمين العامّ للحلف وكذلك إلى وزارات الدفاع في جميع الدول الأعضاء.
اللافت في هذه الاستفزازات اليونانية أمران رئيسان: الأول استخدام منظومة S-300 روسية الصنع التي تصرّ أثينا على أنها ما زالت غير مفعلة، رغم بعض القرائن التي تقول بعكس ذلك.
فاليونان كانت قد أعلنت عن “اختبار” المنظومة في 2013، وتحدثت تركيا أكثر من مرة عن استخدامها لها في مواجهة المقاتلات التركية.
بل إن وزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس رفض قبل أشهر فكرة نقل المنظومة إلى أوكرانيا بسبب الحرب مع روسيا من باب أن “اليونان تواجه خطراً حقيقياً”، ولذلك فهي لن تنقل إلى كييف “ما نحتاج إليه، وما هو مفيد، وما هو فاعل عملياتيّاً”.
هذه النقطة تحديداً حساسة جدّاً لأنقرة، فالأخيرة تعرضت لانتقادات شديدة وعقوبات بسبب شرائها منظومة S-400 الروسية الدفاعية، بما في ذلك إخراجها نهائياً من مشروع مقاتلات F-35 وبعض العقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية لديها من الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت المُحاجَّة التركية تقول إن اليونان تمتلك منظومة S-300 وهي كذلك عضو في الناتو لكنها لم تتعرض لأي انتقادات أو عقوبات، وكان الردّ اليوناني والأمريكي أن S-300 غير مشغَّلة ولا فاعلة.
وهنا، إن أثبتت أنقرة أن اليونان قد فعّلَت المنظومة وتستخدمها فعليّاً فهذا سيقوّي سرديّتها مقابل اليونان من جهة، وحلف الناتو من جهة أخرى، وسيعطي مصداقية إضافية لانتقاداتها لازدواجية المعايير الأمريكية والأطلسية.
والأمر الثاني اللافت في الحادثة أن اليونان ترفع من مستوى الاستفزازات وتحدي تركيا رغم أنها تدرك أن إمكاناتها لا تقارَن بتلك التي لدى الأخيرة، لا عسكرياً ولا اقتصادياً، ما يعني أن التصعيد لا يصبّ في مصلحتها. على مدى السنوات السابقة كانت اليونان ترفع مستوى التوتر مع تركيا، وخصوصاً في شرق المتوسط، بتحريض من فرنسا ودعم منها لأسباب تتعلق بالموقف الفرنسي من تركيا والرئيس أردوغان.
واليوم، يبدو أن الموقف الأمريكي يشجّع أثينا على الاستمرار في هذا المسار، فالعقوبات الأمريكية على تركيا، وإخراجها من مشروع مقاتلات F35، وانحيازها النسبي في القضية القبرصية، كلها أمور تمنح أثينا إحساساً بأن واشنطن أقرب لها من أنقرة. فإذا ما أضيف إلى كل ذلك القواعد العسكرية التي تنشرها الولايات المتحدة الأمريكية على الأراضي اليونانية وعلى مقربة من الحدود التركية، يمكن فهم إصرار اليونان على التصعيد والتوتر مع تركيا.
تقول واشنطن إن هذه القواعد والمناورات العسكرية في مواجهة روسيا، إلا أن أنقرة لا تُقِرّ بهذا الادعاء الذي وصفه الرئيس أردوغان مرةً بـ”الكذب” مؤكداً أنها تستهدف تركيا قبل أي طرف آخر. ومن المؤشرات ذات الدلالة بالنسبة إلى أنقرة، وإن لم تقف عندها التصريحات السياسية كثيراً، التصريحات التي صدرت عن مسؤولين في الخارجية الأمريكية وبدا كأنها تقف على الحياد إزاء الحدث، ومسح تغريدة من أحد حسابات حلف الناتو تتضمن تهنئة لتركيا بعيد الظفر بعد احتجاج اليونان على ذلك.
هذا المعطى، أي تصعيد اليونان مع تركيا خدمة لآخرين، ذكره الرئيس أردوغان خلال خطابه قبل أيام في الاحتفالات بذكرى “عيد الظفر”، حين قال إن اليونان “ليست ندّاً لنا، لا سياسيّاً ولا اقتصاديّاً ولا عسكريّاً”، مؤكداً أن هناك من “يستخدمون اليونان ليستنزفوا وقت بلادنا وطاقتها، تماماً كما فعلوا قبل قرن من الآن”.
وفي الخلاصة، لا ترى تركيا أن اليونان تنطلق من استفزازاتها المتكررة لها من مصالحها الجوهرية ولا قرارها الذاتي، كما لم تكُن تنطلق في التهدئة والحوار منهما. وإنما هي مدفوعة من أطراف تريد شَغلها -أي شَغل تركيا- باستخدام اليونان، وهم من يفترض أن يكونوا حلفاءها وشركاءها داخل حلف الناتو وفي المنظومة الغربية عموماً.
ويبدو أن هذه النظرة من ضمن أسباب المقاربة التركية للأمر، والتي تعتمد على الحكمة والتروي من جهة، واستمرار استكمال عناصر القوة الذاتية من جهة ثانية، دون تقديم تنازلات ولكن أيضاً دون دفع الأمور إلى حافة الصدام.
ويبدو أن هذا الملفّ سيبقى فاعلاً، برغبة أطراف خارجية، وقابلاً للاستخدام والتسخين مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا بداية الصيف المقبل، كأداة ضغط على الرئيس أردوغان، وهو ما يبدو أن الأخير يدركه تمام الإدراك ويعمل على مواجهته بالخطاب والممارسة.