Connect with us

مقالات وتقارير

هل للحجر الأسود من أجزاء في إسطنبول؟

Published

on

– ضمن الحملة الإعلامية الشرسة المُعادية لتركيا الحديثة، الذباب الألكتروني المُمول من بعض دول الخليج التي أشغلت نفسها بشيطنة تركيا والتشكيك بها والإساءة لتاريخها وشعبها ورموزها، لم يدّخر جهدا ليصف ويؤكد بأن وجود قطع صغيرة من الحجر الأسود في مساجد إسطنبول، لا يختلف كثيرا عن “سرقة” القرامطة للحجر الأسود وتغييبه أكثر من عشرين عاما في العصر العباسي.

– الصحف والمواقع السعودية تعاملت مع القضية في السابق كحدث تاريخي سردت أحداثه دون إبداء سخط على العثمانيين، ولم تُشغّب على العثمانيين في هذا الأمر إلا بعد نشوب أزمة بين السعودية وتركيا على إثر موقف الأخيرة من حصار قطر ومقتل خاشقجي وملفات أخرى.

– الدولة العثمانية على إنجازاتها وخدماتها الجليلة للأمة ليست منزهة عن النقص والأخطاء، ومُهمّة مرصد تفنيد الأكاذيب الأهم؛ وضع الحقيقة بين يدي القارئ بعيدًا عن التزييف وتقبيح الحسن وتحسين القبيح.

–  في الوقت نفسه، يفخر الأتراك القدماء والجُدد بأن قطع الحجر الأسود الصغيرة هذه (محل الجدل) قد وصلت بعد أعمال ترميم الى عاصمة الخلافة حينذاك، ونجَت من السطو على حاملها من قبل اللصوص وقُطّاع الطُرق او الضياع لبُعد المسافة.

– إن دافع القرمطي كان الكراهية للبيت الحرام، أما السلطان سليمان القانوني، فإذا لم تصح قصة نقل أجزاء صغيرة تفتت من الحجر عن طريق عُمّال الترميم إلى اسطنبول في عهده، فإن أعماله الجليلة التي قدمها للحرمين، تُجبرنا على أن نقول إن حمله لهذه القطع كان لغرض تبرّك أو تشريف مقام ونحو ذلك.

بعد الحملة التي تعرض لها مرصد تفنيد الأكاذيب عقب انتشار التقرير المتعلق بدعوة سعوديين لإزالة الرواق العثماني، وردتنا رسائل تطالب بالرد على ما يُروّجه الذباب الألكتروني من نقل العثمانيين أجزاء من الحجر الأسود إلى مساجد في إسطنبول، وتشبيه هذا العمل بصنيع القرامطة الذين سرقوا الحجر الأسود في أوائل القرن التاسع الميلادي.

وسواء كانت الرسائل واردة من شريحة تسعى لإحراجنا بعد ما أسموه باعترافات صحف تركية بوجود أجزاء من الحجر الأسود في إسطنبول، أو واردة ضمن استفسارات جادة عن المسألة، أو من قبل متعاطفين مع التاريخ العثماني، ففي كل الأحوال نجد من واجبنا عرض الحقائق وفق منهج علمي مهني نتبنّاه، يُعلي من قيمة الحقيقة دون تزيين القبيح أو تقبيح الحسن.

أكثر ما لفت الانتباه بهذا الصدد، هو تغريدة لأحد أفراد الأسرة المالكة بالسعودية، يُوجب على تركيا إرجاع قطع الحجر الأسود إلى الكعبة، باعتباره ملكًا لأكثر من ملياري مسلم، وأسماها “سرقة يفتخر بها الأتراك في وقاحة”، على حد قوله.

وقبل الولوج في الرد، نُشير إلى أن المعلومات عن وجود قطع من الحجر الأسود في إسطنبول صحيحة لا شك، حيث أن المعماري العثماني الشهير “سنان” (القرن السادس عشر الميلادي) قام بتثبيت أربعة أجزاء منها في جامع “صوقوللو محمد باشا” في إسطنبول، أما القطعة الخامسة، فهي لا تزال مثبتة في ضريح السلطان سليمان القانوني، بينما توجد القطعة السادسة في مسجد “أسكي” في مدينة “إديرنا”، أقصى الشمال الأوربي لتركيا..

بين الأمس واليوم:


ولئن كنا لا نُنزّه الدولة العثمانية عن الأخطاء، ونرى أن العثمانيين قد أخطأوا، إن لم يكن من الناحية الشرعية فهو خطأ تاريخي قد يستفز مشاعر المسلمين، إلا أننا نرجو من القارئ أن يتسع صدره ونحن نطرح هذا التساؤل:

لماذا لم تقم هذه الضجة عن وجود أجزاء من الحجر الأسود في مساجد تركية في السابق؟ لمَ لمْ نسمع بمن يطالب بذلك قبل الأزمة التي نشبت بين السعودية وتركيا على إثر موقف الأخيرة من حصار قطر ومقتل خاشقجي وملفات أخرى؟

بل قد يَعْجب القارئ إذا قلنا بأن الصحف السعودية كانت تتعامل مع وجود أجزاء من الحجر الأسود بتركيا كشأن تاريخي بطريقة سردية لا يشوبها الضجر أو السخط، بل إنها تتحدث عن الطريقة التي انتقلت بها أجزاء الحجر إلى إسطنبول وكأنها تنافح عن العثمانيين.

بتاريخ 25 نوفمبر 2011م، وتحت عنوان: “الكشف عن 6 أجزاء من الحجر الأسود في تركيا”، نشرت صحيفة المدينة تقريرًا نقلته عن موقع الألوكة (سعودي)، نقلا عن تقرير مترجم، جاء فيه على لسان “محمد سانجاك” إمام مسجد “سكوللو محمد باشا”:

“أثناء ترميم الكعبة تتفتَّتُ أجزاء من الحجر، فيأخذ العاملون هناك قطعة من هذا الفُتات ويأتون بها إلى إسطنبول، وبعد ذلك يبحثون (أي السلطات) عن الشخص الذي أتى بالقطعة الحجرية، ويكافئونه ، بناء على اقتراح المعماري (سنان) القائل: “فليبق هؤلاء هنا (القطع الصغيرة) كضيوف شرف”، ثم يضع المعماري (سنان) الأحجار في أربعة أماكن من مسجد (سكوللو محمد باشا) الذي كان يُنْشِئُه في ذلك الوقت، وتظل الحجارة حتى يومنا هذا”.

ذن فوفقًا لما نشرته الصحيفة السعودية، فإن العاملين في مهام الترميم في العهد العثماني، هم من أتوا بهذه القطع الصغيرة، ورُصدت مكافآت لمن يأتي بها منعا للسرقة، فوضعت كضيوف شرف كما يقول “المعماري سنان”، وفقا للتقرير المترجم أعلاه والذي نشرته صحيفة المدينة السعودية وموقع الألوكة.

ولأن الأمانة العلمية تفرض علينا ألا نعتد بأقوال إمام معاصر لأحد المساجد واعتبارها مرجعًا تاريخيًا حتى نجد لها أصلًا، فنقول إننا نُدلّل بما نشرته الصحيفة على أن السعوديين تعاملوا مع الأمر في السابق بشكل بعيد عن الغضب والمناجزة.

وعرض موقع ” seyhalisemerkandi ” صورا تُظهر أماكن توزيع قطع الحجر الأسود في إسطنبول، وسيُدرك المشاهد أنها قطع صغيرة الحجم، بل ويفخر الأتراك القدماء والجُدد بأن قطع الحجر الأسود (محل الجدل) قد وصلت بعد أعمال الترميم تلك، الى عاصمة الخلافة حينذاك، ونجَت من السطو على حاملها من قبل اللصوص وقُطّاع الطُرق او الضياع لبُعد المسافة.

قطعة من الحجر الأسود في “المسجد القديم” في أدرنة.

مسجد سوكولو محمد باشا في اسطنبول

يبلغ حجمها 2×3 سم وهي في الرخام على باب مدخل مسجد Sokullu Mehmet Pasha


مسجد السليمانية في اسطنبول


   

مقارنة مشروعة:


في العهد العباسي، سنة 317هـ، قامت فرقة تعرف بالقرامطة بمهاجمة البيت الحرام يوم التروية، وقتل الحجاج وسرقة أموالهم، واقتلاع الحجر الأسود من مكانه وحمله إلى ديارهم، وظل بحوزتهم لأكثر من عشرين عاما، فلجأ العباسيون إلى الوساطة ودفع الأموال الطائلة للقرامطة حتى يُعيدوا الحجر الأسود إلى مكانه في بيت الله الحرام.

وجد الذباب الألكتروني ضالتهم في استدعاء هذه القصة وتوظيفها في سياق الحديث عن “سرقة” الأتراك لأجزاء من الحجر الأسود على حد وصفهم، وهي مقارنة، لو كانوا يعلمون ظالمة.

فالقرامطة سرقوا الحجر الأسود بأكمله خلال اعتداء وحشي على الحرم والحجاج، بينما العثمانيون قد حملوا معهم قطعا صغيرة تناثرت من الحجر خلال أعمال الترميم والإعمار، فهل يستويان؟

القرامطة سرقوا الحجر الأسود بدافع ازدراء الكعبة والبيت الحرام، واعتبار الطواف حولها مثل عبادة الأوثان كما تقول الكتب التاريخية، بينما كان العثمانيون مُجِلِّين مُعظّمِين للبيت الحرام، ولا أدل على ذلك من الإصلاحات وأعمال الإعمار والترميم والتجديد التي قاموا بها والتي يشهد لها التاريخ، فهل يستويان؟

لقد انتقلت أجزاء الحجر الأسود إلى إسطنبول في عهد السلطان سليمان القانوني الذي امتلأ تاريخه بحب الحرمين والعمل على إعمارهما وتأمين الطرق إليهما، وهو الذي قام بتجديد وإعمار باب السلام في المسجد الحرام، وتجديد وإعمار مآذن الحرم كمأذنة باب العمرة ومأذنة باب علي بالجانب الشرقي والتي أزيلت في التوسعة السعودية 1375هـ، كما قام بتجديد مقامي المالكي والحنبلي عام 932هـ، وهي نفس السنة التي جعل فيها أساطين المطاف التي تعلق عليها القناديل من النحاس بعد أن كانت حجارة منحوتة كما قال عبد القادر الجزيري في كتابه ” درر الفوائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة”.

وقام بإصلاح مقام إبراهيم عام 949هـ، وكذلك إصلاح المطاف وتغيير بلاطه القديم، ووضَع منبرا من الرخام الأبيض البراق في المسجد، ظل يُخطب عليه حتى عام 1400هـ بعدها نقل إلى متحف الحرم، إلى جانب العديد من أعمال التجديد والإعمار التي قام بها سليمان القانوني في الحرمين الشريفين.

فهل يقارن مثل سليمان القانوني المُحِب المُعظّم لبيت الله الحرام، بأبي طاهر القرمطي المُبغِض له؟

إن دافع القرمطي كان الكراهية للبيت الحرام، أما السلطان سليمان، فإذا لم تصح قصة نقل أجزاء الحجر عن طريق عُمّال الترميم، فإن أعماله الجليلة التي قدمها للحرمين، تُجبرنا على أن نقول إن حمله لهذه القطع كان لغرض تبرّك أو تشريف مقام ونحو ذلك.

ونحسب أننا وضعنا أمام القارئ ملابسات الحدث بموضوعية وشفافية، لنترك له في النهاية مهمة تكوين وجهة نظره تجاه هذه القضية، مع استحضار البعد السياسي الكيدي الإنتقائي لإثارتها.

المصدر : الأناضول

فيسبوك

Advertisement