أخبار السوريين في تركيا
على الجانب الآخر من الحدود.. ماذا ينتظر السوريون العائدون والمرحلون من تركيا؟
يشبه الانتقال من تركيا إلى سوريا، الانتقال بين مرحلتين زمنيتين، تترك خلفك الطرقات المعبدة النظيفة والحدائق المرتبة لتدخل إلى أرض مغبرة بطرقات تزيد فيها الحفر والمطبات عن الرقع المستوية، وترى على جنباتها أعمدة الكهرباء القديمة التي تتدلى منها أسلاك قصيرة مقطوعة تتراقص مع الهواء، وفي كل حين وآخر تشاهد مخيماً أحاله الغبار والطين إلى اللون البني، أو كتلة سكنية ببيوت صغيرة يبدو عليها القدم والإهمال رغم أن لافتاتها تذكر تواريخ إنشاء حديثة.
في ريف حلب الشمالي، ستقطع حواجز تعلوها أعلام عدة، للفصيل وللثورة ولتركيا، مع شعار “تآخ بلا حدود”، وسترى السلاح من جديد بأيدي العناصر، قبل أن تصل إلى أقرب مدينة بعد المعبر الحدودي، إن لم تكن قد غادرت بلادك وقد آذتك ربما ستشعر بفرح ما للعودة، لكن عودتك إليها مرغماً ستحمل كآبة الهزيمة وستجعل كل ما فيها يبدو قاحلاً ومنفراً.
تتوالى كل يوم أنباء ترحيل دفعات جديدة من السوريين في تركيا نحو الشمال الغربي وتل أبيض، وتسري خشية متزايدة بين من تبقوا من “بعبع” مصادفة الشرطة التركية أو زيارتها لهم لتفقد المخالفين.
لكن ما الذي يواجهه السوريون فعلاً بعد عودتهم إلى المنطقة التي لم تهدأ بها الحرب طيلة 12 عاماً، والتي يصر المسؤولون الأتراك على دعوتها بـ”الآمنة” في حين تصف المنظمات الإنسانية أوضاعها بـ”الكارثية”؟
إلى أين؟
حينما قطع أحمد، المنحدر من محافظة دير الزور، الحدود التركية إلى ريف حلب الشمالي لم يستقبله أحد، إذ لا أهل ولا معارف له في المنطقة، فما كان له سوى اللجوء إلى المسجد “ساعدني الناس قليلاً، ولكني لم أتمكن من التجول لأنني لا أملك هوية المجلس المحلي، وهذا تسبب لي بضيق كبير، واضطررت للعودة إلى تركيا عن طريق التهريب لأن عائلتي بها”، حسبما قال لموقع “تلفزيون سوريا”.
أحد سكان المخيمات فتح ملجأه المتواضع لمساعدة صطوف، الذي تعرض للترحيل منذ أقل من شهر، لأنه لا يملك مكاناً آخر للإقامة ولا مال كافٍ للاستئجار، أيضاً لم يعرف الشاب الإجراءات اللازمة لإصدار الهوية المحلية والتي يخشى التنقل دونها، وكغيره تحدث عن إجباره على توقيع أوراق “العودة الطوعية” من قبل السلطات التركية، وعن عدم تلقيه أي مساعدة منذ وصوله إلى المنطقة.
لا يختار المرحلون المعبر الحدودي، حسب تجربة الصحفي خالد الحمصي، الذي قال إن ذلك لم يعد متاحاً بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة في 6 من شباط الماضي، وبالنسبة له لا أحد كان للمساعدة عند وصوله لمنطقة تل أبيض في ريف الرقة، والتي لا تتصل ببقية المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في ريف حلب، وإنما تفصلها مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وقوات النظام السوري، ومن يريد الانتقال منها يضطر لتحمل التكاليف والخطر.
ولم يتلق خالد أي مساعدات عند وصوله إلى المنطقة أيضاً، وقال لموقع “تلفزيون سوريا”، إن الجهات الإدارية المحلية دورها مقتصر على إصدار الهويات، “وصولي إلى هذه المنطقة هو هدم لسنوات بناء طويلة كنت فيها بتركيا لمدة ثماني سنوات”.
مساعدة محدودة
عند تعرض أي شخص للاحتجاز بهدف الترحيل تبدأ محاولاته لإيقاف العملية وإلغاء القرار، البعض ينجحون في ذلك وهم ضمن الأراضي التركية، لكن الفرص تتضاءل بعد العبور إلى الجانب السوري.
عودة المرحلين من تركيا ممكنة في حال كان إجراء الترحيل خاطئاً، حسب بيان “اللجنة السورية التركية المشتركة”، الصادر في تشرين الأول من العام الماضي، وكما أوضحت مديرة الاتصال في اللجنة، إيناس النجار، لموقع “تلفزيون سوريا”، فإن من يملكون هويات صادرة عن ولايات ويتم اعتقالهم في ولايات أخرى يجب أن تتم إعادتهم إلى الولايات الأولى لا أن ينقلوا إلى سوريا، واستطاعت اللجنة مسبقاً إعادة البعض من الداخل السوري بإجراءات طالت لمدة شهر حتى تمت إعادة تفعيل أوراقهم القانونية.
وقالت النجار إن “على المعرضين للترحيل أو من تم ترحيلهم فعلاً التواصل مع محام لحل القضية، وبحسب حالة كل شخص قد يكون مسعاه موفقاً أو لا”، مشيرة إلى أن من لا يملكون هويات تركية أو من لديهم ملفات أمنية فرصهم ضعيفة.
ولا تتوفر لدى العائدين من تركيا إلى الشمال المعلومات اللازمة عن المنطقة وإجراءاتها الإدارية لذلك يواجهون حالة من الضياع عند الوصول، المحامي عبد الغني شوبك، معاون وزير الإدارة المحلية في الحكومة السورية المؤقتة، أوضح أن لكل مجلس محلي دائرة للأحوال المدنية تتيح الحصول على الهوية وشروطها مرتبطة بمكان الإقامة ويستطيع مدير المخيم أو مختار الحي الذي يقيم به العائد من تركيا التعريف عنه، مع تقديم أي إثبات للهوية، كما أكد على عدم وجود أي إجراءات عقابية لمن لا يصدر الهوية وإنما يحتاجها المقيم للحصول على خدمات المجلس ولإجراء كافة المعاملات في المنطقة.
وعود تخالف الشهادات
محددات عودة السوريين، وفقاً لتصريحات المسؤولين الأتراك، تشمل “الأمان” وتوفر “أماكن الإقامة” وتأهيل “البنية التحتية” وتأمين “فرص العمل”، وبحسب تصريح لوزير الخارجية التركي السابق، مولود جاويش أوغلو، فإن ضمان “الاحتياجات الأساسية” تلك يجب أن تتوفر للعائدين.
وكان مدير عام الاندماج في رئاسة إدارة الهجرة التركية السابق، غوكشة أوك، قال في حوار مع وكالة “الأناضول”، في أيار من العام الماضي، إن المستهدف بالعودة الطوعية “من يؤمن أنه لن ينسجم مع الحياة في تركيا، ومن يخطط لأن يكون مستقبله خارج البلاد، ومن يشعر بأنه يرغب بالعودة، ومن لديه حسرة لبلاده”.
لا ينسجم مريض السرطان حسين قاسم مع مستهدفي “العودة الطوعية”، إذ تعرض للترحيل مع عائلته رغم حاجته للعناية الطبية، غير المتوفرة في منطقة الشمال الغربي، والتي كانت قبل الزلزال تسمح بالحصول على إذن خاص لعبور الحدود عند استقبال حالات المرضى من قبل الجانب التركي، وكان سبب ترحيله هو مخالفته لشرط البقاء في ولايته، بعد أن حاول الانتقال بسبب المعاملة “العنصرية” التي تعرض لها، حسبما قال لموقع “تلفزيون سوريا”.
من جهته وصف الناشط الحقوقي، صلاح الدباغ، والذي تعرض للترحيل منذ نحو عام، منطقتي ريف حلب وإدلب بـ”غير الآمنتين”، مع معاناة الأولى من تبادل القصف بين القواعد التركية و”قوات سوريا الديمقراطية”، إضافة إلى القتال الفصائلي المتكرر، والثانية للقصف من قبل قوات النظام وحليفته روسيا وواقعها “غير المستقر ومجهول المصير”.
كما أشار إلى انتشار “ثقافة السلاح” التي يلجأ لها السكان لحل خلافاتهم بدل اللجوء للقضاء والقانون، كما أنه “من الصعب التعايش مع ذلك من قبل المرحلين من تركيا لأنهم انتقلوا لمنطقة لا يعرفون بها أحد ويتفاجؤون بكم العنف في هذه المناطق”.
المنطقة لا تحتمل أي تهجير جديد
وبرأي الناشط الحقوقي فإن المنطقة “لا تحتمل عبء أي تهجير جديد”، مع تأكيده على أن ترحيل السوريين لمناطق الصراع يخالف القوانين والأعراف الدولية، وأضاف أن المعيشة مرتفعة التكاليف بالنسبة للمقيمين ومن لا يملك المال يحرم من العديد من الخدمات فيها.
الوعود التركية ركزت على خدمات الإقامة والبنى التحتية بشكل خاص، إذ قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أيار الماضي “أنشأنا حتى الآن أكثر من 100 ألف منزل في الشمال السوري عبر مؤسساتنا الحكومية ومنظماتنا المدنية، وقد بدأ المهاجرون العودة إلى هذه المنازل”.
وصرح قبلها بأن تركيا تعد مشاريع سكنية لعودة “مليون لاجئ أو أكثر، لأن استثمارات البنية التحتية التي نقوم بها هناك الآن في وضع يمكنها استيعاب أكثر من ذلك”.
لكن المشاريع المذكورة، التي من المتوقع أن تنتهي خلال عامين إلى ثلاثة أعوام، لا تستهدف اللاجئين العائدين من تركيا بالضرورة، إذ إنهم لا يخضعون لأي عملية تسجيل مختلفة عن المقيمين فعلاً في المنطقة.
“الإمكانيات محدودة والاحتياج كبير” فعند تسجيل الشخص في المنطقة لا فرق بينه وبين المقيمين الآخرين وسيتلقى الخدمات كغيره في مجال عمل المجلس المحلي، حسبما أوضح المحامي عبد الغني شوبك.
بدوره، قال مسؤول القسم الإعلامي في منظمة “ملهم”، عبد الله الخطيب، إن العائدين من تركيا كغيرهم من سكان المنطقة يخضعون لتقييم الاحتياج لتلقي المساعدة، ومعظم المشاريع السكنية تخصص للعائلات وليست للشباب الذين يمثلون غالبية المرحلين.
سبل المعيشة “ضيقة”
بعد 11 عاماً من الإقامة في تركيا، تمكن خلالها الشاب أحمد عثمان من العمل وتحقيق الاستقرار المادي، تعرض للترحيل بسبب “كود أمني بدون سبب”، حسبما قال لموقع تلفزيون سوريا.
وتابع بأن فرص العمل في الشمال الغربي “معدومة وإن كانت موجودة فهي أشبه بالعبودية” حسب رأيه مستثنياً من يملك ما يكفي من المال لافتتاح عمل خاص، ووصف حال من لا يملك من يساعده من خارج سوريا بـ”السيء جداً”.
حينما تعرض أحمد للترحيل، بعد أعوام من العمل كقصاب في تركيا، لم يستطع حمل وثائقه القانونية التي كانت في مسكنه ولا أي نقود بحوزته إذ نقلته دورية الشرطة من منزله الساعة الواحدة بعد منتصف الليل إلى السجن وبعد أيام وجد نفسه في الداخل السوري، واستغرق منه التنقل للوصول إلى أقاربه في المنطقة ساعات طويلة، ومنذ ذلك الحين، قبل نحو عام، لم يجد فرصة عمل تؤمن له مدخوله اليومي، كما لم يتلق أي مساعدة من منظمات أو جهات محلية.
ليس جميع العائدين من تركيا هم من المرحلون قسراً فهناك من وقع على أوراق العودة الطوعية بإرادته، مثل الشاب عبد الله المحمد الذي عاد إلى إدلب منذ ثلاث سنوات، بعد تعرضه لحادث سيارة وتأثره ببدء حملات الترحيل وتدهور الوضع الاقتصادي في تركيا.
وبعد معاناة في البحث عن العمل تمكن من إيجاد فرصته لكنه يجد أن التكاليف المعيشية المرتفعة تسبب ضغطاً على المقيمين وهو ما يدفعه للتفكير بالسفر في حال توفر الفرصة المناسبة، لكنه لا يفكر بالعودة إلى تركيا “لأن الوضع في تركيا زاد عن حده”، حسب تعبيره.